فصل: متى تجب الجزية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **


 كتاب الجهاد

-والقول المحيط بأصول هذا الباب ينحصر في جملتين‏:‏ الجملة الأولى‏:‏ في معرفة أركان الحرب‏.‏ الثانية‏:‏ في أحكام أموال المحاربين إذا تملكها المسلمون‏.‏

‏(‏ الجملة الأولى‏)‏ وفي هذه الجملة فصول سبعة‏:‏

-أحدها‏:‏ معرفة حكم هذه الوظيفة ولمن تلزم‏.‏ والثاني‏:‏ معرفة الذين يحاربون‏.‏ والثالث‏:‏ معرفة ما يجوز من النكاية في صنف صنف من أصناف أهل الحرب مما لا يجوز‏.‏ والرابع‏:‏ معرفة جواز شروط الحرب‏.‏ والخامس‏:‏ معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم‏.‏ والسادس‏:‏ هل تجوز المهادنة‏؟‏‏.‏ والسابع‏:‏ لماذا يحاربون‏؟‏‏.‏

 الفصل الأول في معرفة حكم هذه الوظيفة‏.‏

-فأما حكم هذه الوظيفة فأجمع العلماء على أنها فرض على الكفاية لا فرض عين، إلا عبد الله بن الحسن، فإنه قال إنها تطوع، وإنما صار الجمهور لكونه فرضا لقوله تعالى ‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم‏}‏ الآية‏.‏ وأما كونه فرضا على الكفاية، أعني إذا قام به البعض سقط عن البعض فلقوله تعالى ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ الآية، وقوله ‏{‏وكلا وعد الله الحسنى‏}‏ ولم يخرج قط رسول الله صلى الله عليه وسلم للغزو إلا وترك بعض الناس، فإذا اجتمعت هذه اقتضى ذلك كون هذه الوظيفة فرضا على الكفاية‏.‏ وأما على من يجب فهم الرجال الأحرار البالغون الذين يجدون بما يغزون الأصحاء إلا المرضى وإلا الزمنى، وذلك لا خلاف فيه لقوله تعالى ‏{‏ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج‏}‏ وقوله ‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج‏}‏ الآية‏.‏ وأما كون هذه الفريضة تختص بالأحرار فلا أعلم فيها خلافا، وعامة الفقهاء متفقون على أن من شرط هذه الفريضة إذن الأبوين فيها، إلا أن تكون عليه فرض عين مثل أن لا يكون هنالك من يقوم بالفرض إلا بقيام الجميع به، والأصل في هذا ما ثبت ‏"‏أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إني أريد الجهاد، قال‏:‏ أحي والداك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ففيهما فجاهد‏"‏ واختلفوا في إذن الأبوين المشركين‏.‏ وكذلك اختلفوا في إذن الغريم إذا كان عليه دين لقوله عليه الصلاة والسلام وقد سأله الرجل ‏"‏أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتسبا في سبيل الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريل آنفا‏"‏ والجمهور على جواز ذلك، وبخاصة إذا تخلف وفاء من دينه‏.‏

 الفصل الثاني في معرفة الذين يحاربون‏.‏

-فأما الذين يحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله‏}‏ إلا ما روي عن مالك أنه قال‏:‏ لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏ذروا الحبشة ما وذرتكم‏"‏ وقد سئل مالك عن صحة هذا الأثر فلم يعترف بذلك لكن قال‏:‏ لم يزل الناس يتحامون غزوهم‏.‏

 الفصل الثالث في معرفة ما يجوز من النكاية بالعدو‏.‏

-وأما ما يجوز من النكاية بالعدو، فإن النكاية لا تخلو أن تكون في الأموال أو في النفوس أو في الرقاب، أعني الاستعباد والتملك‏.‏ فأما النكاية التي هي الاستعباد فهي جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين، أعني ذكرانهم وإناثهم وشيوخهم وصبيانهم صغارهم وكبارهم إلا الرهبان، فإن قوما رأوا أن يتركوا ولا يؤسروا بل يتركوا دون أن يعرض إليهم لا بقتل ولا باستعباد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏فذروهم وما حبسوا أنفسهم إليه‏"‏ واتباعا لفعل أبي بكر، وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال‏:‏ منها أن يمن عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، ومنها أن يأخذ منهم الفداء، ومنها أن يضرب عليهم الجزية‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يجوز قتل الأسير‏.‏ وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة‏.‏ والسبب في اختلافهم تعارض الآية في هذا المعنى وتعارض الأفعال ومعارضة ظاهر الكتاب لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أن ظاهر قوله تعالى ‏{‏فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب‏}‏ الآية، أنه ليس للإمام بعد الأسر إلا المن أو الفداء وقوله تعالى ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ الآية‏.‏ والسبب الذي نزلت فيه من أسارى بدر يدل على أن القتل أفضل من الاستعباد، وأما هو عليه الصلاة والسلام فقد قتل الأسارى في غير ما موطن وقد من واستعبد النساء‏.‏ وحكى أبو عبيد أنه لم يستعبد أحرار ذكور العرب وأجمعت الصحابة بعده على استعباد أهل الكتاب ذكرانهم وإناثهم، فمن رأى أن الآية الخاصة بفعل الأسارى ناسخة لفعله قال‏:‏ لا يقتل الأسير، ومن رأى أن الآية ليس فيها ذكر لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى بل فعله عليه الصلاة والسلام وهو حكم زائد على ما في الآية، ويحط العتب الذي وقع في ترك قتل أسارى بدر قال‏:‏ بجواز قتل الأسير، والقتل إنما يجوز إذا لم يكن يوجد بعد تأمين، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنما اختلفوا فيمن يجوز تأمينه ممن لا يجوز، واتفقوا على جواز تأمين الإمام، وجمهور العلماء على جواز أمان الرجل الحر المسلم إلا ما كان من ابن الماجشون يرى أنه موقوف على إذن الإمام‏.‏

واختلفوا في أمان العبد وأمان المرأة، فالجمهور على جوازه، وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان‏:‏ أمان المرأة موقوف على إذن الإمام‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة العموم للقياس‏.‏ أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم‏"‏ فهذا يوجب أمان العبد بعمومه‏.‏ وأما القياس المعارض له فهو أن الأمان من شرطه الكمال، والعبد ناقص بالعبودية، فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه قياسا على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعية وأن يخصص ذلك العموم بهذا القياس‏.‏ وأما اختلافهم في أمان المرأة، فسببه اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏"‏ وقياس المرأة في ذلك على الرجل، وذلك أن من فهم من قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ‏"‏ إجازة أمانها لا صحته في نفسه، وأنه لولا إجازته لذلك لم يؤثر قال‏:‏ لا أمان للمرأة إلا أن يجيزه الإمام، ومن فهم من ذلك أن إمضاءه أمانها كان من جهة أنه قد انعقد وأثر لا من جهة أن إجازته هي التي صححت عقده قال‏:‏ أمان المرأة جائز، وكذلك من قاسها على الرجل ولم ير بينهما فرقا في ذلك أجاز أمانها، ومن رأى أنها ناقصة عن الرجل لم يجز أمانها، وكيفما كان فالأمان غير مؤثر في الاستعباد وإنما يؤثر في القتل، وقد يمكن أن ندخل الاختلاف في هذا من قبل اختلافهم في ألفاظ جموع المذكر هل تتناول النساء أم لا‏؟‏ أعني بحسب العرف الشرعي‏.‏ وأما النكاية التي تكون في النفوس فهي القتل ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين‏.‏ وأما القتل بعد الأسر ففيه الخلاف الذي ذكرنا، وكذلك لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي، فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها، وذلك لما ثبت ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء والولدان، وقال في امرأة مقتولة‏:‏ ما كانت هذه لتقاتل‏"‏

واختلفوا في أهل الصوامع المنتزعين عن الناس والعميان والزمنى والشيوخ الذين لا يقاتلون والمعتوه والحراث والعسيف، فقال مالك‏:‏ لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع، ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به، وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ وقال الثوري والأوزاعي‏:‏ لا تقتل الشيوخ فقط‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ لا تقتل الحراث‏.‏ وقال الشافعي في الأصح عنه تقتل جميع هذه الأصناف‏.‏

والسبب في اختلافهم معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب، ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثابت ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله إلا الله‏"‏ الحديث، وذلك في قوله تعالى ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ يقتضي قتل كل مشرك راهبا كان أو غيره، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله‏"‏‏.‏ وأما الآثار التي وردت باستبقاء هذه الأصناف؛ فمنها ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال‏:‏ لا تقتلوا أصحاب الصوامع‏"‏ ومنها أيضا ما روي عن أنس بن مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا‏"‏ خرجه أبو داود، ومن ذلك أيضا ما رواه مالك عن أبي بكر أنه قال‏:‏ ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، وفيه‏:‏ ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما‏"‏‏.‏

ويشبه أن يكون السبب الأملك في الاختلاف في هذه المسألة معارضة قوله تعالى ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين‏}‏ لقوله تعالى ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ الآية‏.‏ فمن رأى أن هذه ناسخة لقوله تعالى ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏}‏ لأن القتال أولا إنما أبيح لمن يقاتل قال‏:‏ الآية على عمومها، ومن رأى أن قوله تعالى ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏}‏ وهي محكمة وأنها تتناول ‏(‏قوله تتناول الخ‏:‏ هكذا هذه العبارة ولينظر التناول بعد قوله يقاتلونكم تأمل ا هـ مصححه‏)‏‏.‏ هؤلاء الأصناف الذين لا يقاتلون استثناها من عموم تلك، وقد احتج الشافعي بحديث سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم‏"‏ وكأن العلة الموجبة للقتل عنده إنما هي الكفر، فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار‏.‏

وأما من ذهب إلى أنه لا يقتل الحراث، فإنه احتج في ذلك بما روي عن زيد بن وهب قال‏:‏ أتانا كتاب عمر رضي الله عنه وفيه‏:‏ لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين‏.‏ وجاء في حديث رباح بن ربيعة النهي عن قتل العسيف المشرك وذلك ‏"‏أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ثم قال‏:‏ ما كانت هذه لتقاتل، ثم نظر في وجوه القوم فقال لأحدهم‏:‏ الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ولا امرأة‏"‏‏.‏ والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم اختلافهم في العلة الموجبة للقتل، فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر لم يستثن أحدا من المشركين، ومن زعم أن العلة في ذلك إطاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار استثنى من لم يطق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه كالفلاح والعسيف‏.‏ وصح النهي عن المثلة،

واتفق المسلمون على جواز قتلهم بالسلاح، واختلفوا في تحريقهم بالنار، فكره قوم تحريقهم بالنار ورميهم بها وهو قول عمر‏.‏ ويروى عن مالك، وأجاز ذلك سفيان الثوري، وقال بعضهم‏:‏ إن ابتدأ العدو بذلك جاز وإلا فلا‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص‏.‏ أما قوله تعالى ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ولم يستثن قتلا من قتل‏.‏ وأما الخصوص فما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل ‏"‏إن قدرتم عليه فاقتلوه ولا تحرقوه بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار‏"‏ واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن لما جاء ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب المنجنيق على أهل الطائف‏"‏؛ وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين، فقالت طائفة‏:‏ يكف عن رميهم بالمنجنيق وبه قال الأوزاعي‏.‏ وقال الليث‏:‏ ذلك جائز ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى ‏{‏لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما‏}‏ الآية‏.‏ وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة، فهذا هو مقدار النكاية التي يجوز أن تبلغ بهم في نفوسهم ورقابهم‏.‏ وأما النكاية التي تجوز في أموالهم وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك، فأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل، وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك، وقال الشافعي‏:‏ تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل، وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل‏.‏

والسبب في اختلافهم مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه ثبت ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام حرق نخل بني النضير‏"‏ وثبت عن أبي بكر أنه قال‏:‏ لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا، فمن ظن أن فعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله، أو رأى أن ذلك كان خاصا ببني النضير لغزوهم قال بقول أبي بكر، ومن اعتمد فعله عليه الصلاة والسلام ولم ير قول أحد ولا فعله حجة عليه قال‏:‏ بتحريق الشجر‏.‏ وإنما فرق مالك بين الحيوان والشجر لأن قتل الحيوان مثلة وقد نهى عن المثلة، ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قتل حيوانا، فهذا هو معرفة النكاية التي يجوز أن تبلغ من الكفار في نفوسهم وأموالهم‏.‏

 الفصل الرابع في شرط الحرب‏.‏

-فأما شرط الحرب فهو بلوغ الدعوة باتفاق، أعني أنه لا يجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وذلك شيء مجمع عليه من المسلمين لقوله تعالى ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏ وأما هل يجب تكرار الدعوة عند تكرار الحرب فإنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من أوجبها، ومنهم من استحبها ومنهم من لم يوجبها ولا استحبها‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة القول للفعل، وذلك ‏"‏أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كان إذا بعث سرية قال لأميرها‏:‏ إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دراهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبو فاستعن بالله وقاتلهم‏"‏ وثبت من فعله عليه الصلاة والسلام أنه كان يبيت للعدو ويغير عليهم مع الغدوات، فمن الناس وهم الجمهور من ذهب إلى أن فعله ناسخ لقوله وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام قبل أن تنتشر الدعوة بدليل دعوتهم فيه إلى الهجرة، ومن الناس من رجح القول على الفعل، وذلك بأن حمل الفعل على الخصوص، ومن استحسن الدعاء فهو وجه من الجمع‏.‏

 الفصل الخامس في معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم‏.‏

-وأما معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم فهم الضعف، وذلك مجمع عليه لقوله تعالى ‏{‏الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا‏}‏ الآية‏.‏ وذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك أن الضعف إنما يعتبر في القوة لا في العدد، وأنه يجوز أن يفر الواحد عن الواحد إذا كان أعتق جوادا منه وأجود سلاحا وأشد قوة‏.‏

 الفصل السادس في جواز المهادنة‏.‏

-فأما هل تجوز المهادنة‏؟‏ فإن قوما أجازوها ابتداء من غير سبب إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين، وقوم لم يجيزوها إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام من فتنة أو غير ذلك إما بشيء يأخذونه منهم لا على حكم الجزية إذ كانت الجزية إنما شرطها أن تؤخذ منهم وهم بحيث تنفذ عليهم أحكام المسلمين، وإما بلا شيء يأخذونه منهم، وكان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمام الكفار على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غير ذلك من الضرورات‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يعطي المسلمون الكفار شيئا إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو وقلتهم أو لمحنة نزلت بهم، وممن قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحة مالك والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار عام الحديبية‏.‏ وسبب اختلافهم في جواز الصلح من غير ضرورة معارضة ظاهر قوله تعالى ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ لقوله تعالى ‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله‏}‏ فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح قال‏:‏ لا يجوز الصلح إلا من ضرورة، ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك قال‏:‏ الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام وعضد تأويله بفعله ذلك صلى الله عليه وسلم، وذلك أن صلحه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة‏.‏ وأما الشافعي فلما كان الأصل عنده الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وكان هذا مخصصا عنده بفعله عليه الصلاة والسلام عام الحديبية لم ير أن يزاد على المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في هذه المدة، فقيل كانت أربع سنين وقيل ثلاثا، وقيل عشر سنين، وبذلك قال الشافعي‏.‏ وأما من أجاز أن يصالح المسلمون المشركين بأن يعطوا لهم المسلمون شيئا إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غيرها فمصيرا إلى ما روي ‏"‏أنه كان عليه الصلاة والسلام قد هم أن يعطي بعض ثمر المدينة لبعض الكفار الذين كانوا في جملة الأحزاب لتخبيبهم، فلم يوافقه على القدر الذي كان سمح له به من ثمر المدينة حتى أفاء الله بنصره‏"‏‏.‏ وأما من لم يجز ذلك إلا أن يخاف المسلمون أن يصطلموا فقياسا على إجماعهم على جواز فداء أسارى المسلمين، لأن المسلمين إذا صاروا في هذا الحد فهم بمنزلة الأسارى‏.‏

 الفصل السابع لماذا يحاربون‏؟‏

-فأما لماذا يحاربون‏؟‏ فاتفق المسلمون على أن المقصود بالمحاربة لأهل الكتاب ما عدا أهل الكتاب من قريش ونصارى العرب هو أحد أمرين‏:‏ إما الدخول في الإسلام، وإما إعطاء الجزية لقوله تعالى ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ وكذلك اتفق عامة الفقهاء على أخذها من المجوس لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏"‏ واختلفوا فيما سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أم لا‏؟‏ فقال قوم‏:‏ تؤخذ الجزية من كل مشرك، وبه قال مالك‏.‏ وقوم استثنوا من ذلك مشركي العرب‏.‏ وقال الشافعي وأبو ثور وجماعة‏:‏ لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص‏.‏ أما العموم فقوله تعالى ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله‏}‏ وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‏"‏ وأما الخصوص فقوله لأمراء السرايا الذين كان يبعثهم إلى مشركي العرب، ومعلوم أنهم كانوا من غير أهل كتاب ‏"‏فإذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال، فذكر الجزية فيها‏"‏ وقد تقدم الحديث‏.‏ فمن رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص فهو ناسخ له قال‏:‏ لا تقبل الجزية من مشرك ما عدا أهل الكتاب لأن الآية الآمرة بقتالهم على العموم هي متأخرة عن ذلك الحديث وذلك أن الأمر بقتال المشركين عامة هو في سورة براءة، ذلك عام الفتح، وذلك الحديث إنما هو قبل الفتح بدليل دعائهم فيه للهجرة، ومن رأى أن العموم يبني على الخصوص تقدم أو تأخر أو جهل التقدم والتأخر بينهما قال‏:‏ تقبل الجزية من جميع المشركين وأما تخصيص أهل الكتاب من سائر المشركين فخرج من ذلك العموم باتفاق بخصوص قوله تعالى ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ وسيأتي القول في الجزية وأحكامها في الجملة الثانية من هذا الكتاب، فهذه هي أركان الحرب‏.‏ ومما يتعلق بهذه الجملة من المسائل المشهورة‏:‏ النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وعامة الفقهاء على أن ذلك غير جائز لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز ذلك إذا كان في العساكر المأمونة‏.‏ والسبب في اختلافهم هل النهي عام أريد به العام أو عام أريد به الخاص‏.‏

‏(‏ الجملة الثانية‏)‏ والقول المحيط بأصول هذه الجملة ينحصر أيضا في سبعة فصول‏:‏ الأول‏:‏ في حكم الخمس‏.‏ الثاني‏:‏ في حكم الأربعة الأخماس‏.‏ الثالث‏:‏ في حكم الأنفال‏.‏ الرابع‏:‏ في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار‏.‏ الخامس‏:‏ في حكم الأرضين‏.‏ السادس‏:‏ في حكم الفيء‏.‏ السابع‏:‏ في أحكام الجزية والمال الي يؤخذ منهم على طريق الصلح‏.‏

 الفصل الأول في حكم خمس الغنيمة‏.‏

-واتفق المسلمون على أن الغنيمة التي تؤخذ قسرا من أيدي الروم ما عدا الأرضين أن خمسها للإمام وأربعة أخماسها للذين غنموها لقوله تعالى ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول‏}‏ الآية‏.‏ واختلفوا في الخمس على أربعة مذاهب مشهورة‏:‏ أحدها أن الخمس يقسم على خمسة أقسام على نص الآية، وبه قال الشافعي‏.‏ والقول الثاني أنه يقسم على أربعة أخماس، وأن قوله تعالى ‏{‏فأن لله خمسه‏}‏ هو افتتاح كلام وليس هو قسما خامسا‏.‏ والقول الثالث أنه يقسم اليوم ثلاثة أقسام، وأن سهم النبي وذي القربى سقطا بموت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والقول الرابع أن الخمس بمنزلة الفيء يعطى منه الغني والفقير، وهو قول مالك وعامة الفقهاء‏.‏ والذين قالوا يقسم أربعة أخماس أو خمسة اختلفوا فيما يفعل بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم القرابة بعد موته‏.‏ فقال قوم‏:‏ يرد على سائر الأصناف الذين لهم الخمس‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل يرد على باقي الجيش‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للإمام، وسهم ذوي القربى لقرابة الإمام‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل يجعلان في السلاح والعدة‏.‏ واختلفوا في القرابة من هم‏؟‏ فقال قوم‏:‏ بنو هاشم فقط، وقال قوم‏:‏ بنو عبد المطلب وبنو هاشم‏.‏ وسبب اختلافهم في هل الخمس يقصر على الأصناف المذكورين أم يعدي لغيرهم هو هل ذكر تلك الأصناف في الآية المقصود منها تعيين الخمس لهم أم قصد التنبيه بهم على غيرهم فيكون ذلك من باب الخاص أريد به العام‏؟‏ فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به الخاص قال‏:‏ لا يتعدى بالخمس تلك الأصناف المنصوص عليها وهو الذي عليه الجمهور، ومن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام قال يجوز للإمام أن يصرفها فيما يراه صلاحا للمسلمين، واحتج من رأى أن سهم النبي صلى الله عليه وسلم للإمام بعده بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏إذا أطعم الله نبيا طعمة فهو للخليفة بعده‏"‏ وأما من صرفه على الأصناف الباقين أو على الغانمين فتشبيها بالصنف المحبس عليهم‏.‏ وأما من قال القرابة هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب فإنه احتج بحديث جبير بن مطعم قال ‏"‏قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى لبني هاشم وبني المطلب من الخمس‏"‏ قال‏:‏ وإنما بنو هاشم وبنو المطلب صنف واحد، ومن قال بنو هاشم صنف فلأنهم الذين لا يحل لهم الصدقة‏.‏ واختلف العلماء في سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس؛ فقال قوم‏:‏ الخمس فقط، ولا خلاف عندهم في وجوب الخمس له غاب عن القسمة أو حضرها‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل الخمس والصفي وهو سهم مشهور له صلى الله عليه وسلم، وهو شيء كان يصطفيه من رأس الغنيمة فرس أو أمة أو عبد‏.‏ وروي أن صفية كانت من الصفي‏.‏ وأجمعوا على أن الصفي ليس لأحد من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا ثور فإنه قال‏:‏ يجري مجرى سهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الفصل الثاني في حكم الأربعة الأخماس‏.‏

-وأجمع جمهور العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين إذا خرجوا بإذن الإمام‏.‏ واختلفوا في الخارجين بغير إذن الإمام وفيمن يجب له سهمه من الغنيمة ومتى يجب وكم يجب وفيما يجوز له من الغنيمة قبل القسم‏؟‏ فالجمهور على أن أربعة أخماس الغنيمة للذين غنموها خرجوا بإذن الإمام أو بغير ذلك لعموم قوله تعالى ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ الآية‏.‏ وقال قوم‏:‏ إذا خرجت السرية أو الرجل الواحد بغير إذن الإمام فكل ما ساق نفل يأخذه الإمام، وقال قوم‏:‏ بل يأخذه كله الغانم‏.‏ فالجمهور تمسكوا بظاهر الآية، وهؤلاء كأنهم اعتمدوا صورة الفعل الواقع في ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جميع السرايا إنما كانت تخرج عن إذنه عليه الصلاة والسلام، فكأنهم رأوا أن إذن الإمام شرط في ذلك وهو ضعيف‏.‏ وأما من له السهم من الغنيمة‏؟‏ فإنهم اتفقوا على الذكران الأحرار البالغين، واختلفوا في أضدادهم‏:‏ أعني في النساء والعبيد ومن لم يبلغ من الرجال ممن قارب البلوغ فقال قوم ليس للعبيد ولا للنساء حظ من الغنيمة ولكن يرضخ لهم، وبه قال مالك، وقال قوم‏:‏ لا يرضخ لهم ولا لهم حظ الغانمين، وقال قوم‏:‏ بل لهم حظ واحد من الغانمين، وهو قول الأوزاعي‏.‏ وكذلك اختلفوا في الصبي المراهق، فمنهم من قال‏:‏ يقسم له وهو مذهب الشافعي، ومنهم من اشترط في ذلك أن يطيق القتال، وهو مذهب مالك، ومنه من قال‏:‏ يرضخ له‏.‏ وسبب اختلافهم في العبيد هو هل عموم الخطاب يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد‏؟‏ وأيضا فعمل الصحابة معارض لعموم الآية، وذلك أنه انتشر فيهم رضي الله عنهم أن الغلمان لا سهم لهم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، ذكره ابن أبي شبية من طرق عنهما، قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ أصح ما روي من ذلك عن عمر ما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال‏:‏ قال عمر‏:‏ ليس أحد إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم، وإنما صار الجمهور إلى أن المرأة لا يقسم لها ويرضخ بحديث أم عطية الثابت قالت‏:‏ ‏"‏كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنداوي الجرحى ونمرض المرضى وكان يرضخ لنا من الغنيمة‏"‏‏.‏ وسبب اختلافهم هو اختلافهم في تشبيه المرأة بالرجل في كونها إذا غزت لها تأثير في الحرب أم لا‏؟‏ فإنهم اتفقوا على أن النساء مباح لهن الغزو، فمن شبههن بالرجال أوجب لهن نصيبا في الغنيمة، ومن رآهن ناقصات عن الرجال في هذا المعنى إما لم يوجب لهن شيئا وإما أوجب لهن دون حظ الغانمين وهو الإرضاخ، والأولى اتباع الأثر، وزعم الأوزاعي ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر‏"‏ وكذلك اختلفوا في التجار والأجراء هل يسهم لهم أم لا‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا، وقال قوم‏:‏ بل يسهم إذا شهدوا القتال‏.‏

وسبب اختلافهم هو تخصيص عموم قوله تعالى ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏ بالقياس الذي يوجب الفرق بين هؤلاء وسائر الغانمين، وذلك أن من رأى أن التجار والأجراء حكمهم حكم خلاف سائر المجاهدين لأنهم لم يقصدوا القتال وإنما قصدوا إما التجارة وإما الإجارة استثناهم من ذلك العموم‏.‏ ومن رأى أن العموم أقوى من هذا القياس أجرى العموم على ظاهره، ومن حجة من استثناهم ما خرجه عبد الرزاق أن عبد الرحمن بن عوف قال لرجل من فقراء المهاجرين أن يخرج معهم، فقال نعم فوعده، فلما حضر الخروج دعاه فأبى أن يخرج معه واعتذر له بأمر عياله وأهله، فأعطاه عبد الرحمن ثلاثة دنانير على أن يخرج معه، فلما هزموا العدو سأل الرجل عبد الرحمن نصيبه من المغنم فقال عبد الرحمن‏:‏ سأذكر أمرك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏تلك الثلاثة دنانير حظه ونصيبه من غزوه في أمر دنياه وآخرته‏"‏ وخرج مثله أبو داود عن يعلى بن منبه ومن أجاز له القسم شبهه بالجعائل أيضا وهو أن يعين أهل الديوان بعضهم بعضا، أعني أن يعين القاعد منهم الغازي‏.‏ وقد اختلف العلماء في الجعائل، فأجازها مالك ومنعها غيره، ومنهم من أجاز ذلك من السلطان فقط أو إذا كانت ضرورة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي‏.‏ وأما الشرط الذي يجب به للمجاهد السهم من الغنيمة، فإن الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل، وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة، وبهذا قال الجمهور‏.‏ وقال قوم‏:‏ إذا لحقهم قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام وجب له حظه من الغنيمة إن اشتغل في شيء من أسبابها، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ والسبب في اختلافهم سببان‏:‏ القياس والأثر‏.‏ أما القياس فهو هل يلحق تأثير الغازي في الحفظ بتأثيره في الأخذ‏؟‏ وذلك أن الذي شهد القتال له تأثير في الأخذ‏:‏ أعني في أخذ الغنيمة وبذلك استحق السهم، والذي جاء قبل أن يصلوا إلى بلاد المسلمين له تأثير في الحفظ، فمن شبه التأثير في الحفظ بالتأثير في الأخذ قال‏:‏ يجب له السهم وإن لم يحضر القتال، ومن رأى أن الحفظ أضعف لم يوجب له‏.‏

وأما الأثر فإن في ذلك أثرين متعارضين‏:‏ أحدهما ما روي عن أبي هريرة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما فتحوها فقال أبان‏:‏ اقسم لنا يا رسول الله، فلم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم منها‏"‏ والأثر الثاني ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر ‏"‏إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ولم يضرب لأحد غاب عنها‏"‏ قالوا‏:‏ فوجب له السهم لأن اشتغاله كان بسبب الإمام‏.‏ قال أبو بكر بن المنذر‏:‏ وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ الغنيمة لمن شهد الوقيعة‏.‏ وأما السرايا التي تخرج من العساكر فتغنم، فالجمهور على أن أهل العسكر يشاركونهم فيما غنموا وإن لم يشهدوا الغنيمة ولا القتال، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏وترد سراياهم على قعدتهم‏"‏ خرجه أبو داود، ولأن لهم تأثير أيضا في أخذ الغنيمة‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ إذا خرجت السرية بإذن الإمام من عسكره خمسها وما بقي فلأهل السرية، وإن خرجوا بغير إذنه خمسها، وكان ما بقي بين أهل الجيش كله‏.‏ وقال النخعي‏:‏ الإمام بالخيار إن شاء خمس ما ترد السرية وإن شاء نفله كله‏.‏ والسبب أيضا في هذا الاختلاف هو تشبيه تأثير العسكر في غنيمة السرية بتأثير من حضر القتال بها وهم أهل السرية، فإذن الغنيمة إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين‏:‏ إما أن يكون ممن حضر القتال، وإما أن يكون ردءا لمن حضر القتال، وأما كم يجب للمقاتل فإنهم اختلفوا في الفارس، فقال الجمهور‏:‏ للفارس ثلاثة أسهم‏:‏ سهم له، وسهمان لفرسه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ للفارس سهمان‏:‏ سهم لفرسه، وسهم له‏.‏

والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار ومعارضة القياس للأثر، وذلك أن أبا داود خرج عن ابن عمر ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم‏:‏ سهمان للفرس، وسهم لراكبه‏"‏ وخرج أيضا عن مجمع بن حارثة الأنصاري مثل قول أبي حنيفة‏.‏ وأما القياس المعارض لظاهر حديث ابن عمر فهو أن يكون سهم الفرس أكبر من سهم الإنسان، هذا الذي اعتمده أبو حنيفة في ترجيح الحديث الموافق لهذا القياس على الحديث المخالف له، وهذا القياس ليس بشيء، لأن سهم الفرس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل بل لعله واجب مع أن حديث ابن عمر أثبت‏.‏ وأما ما يجوز للمجاهد أن يأخذ من الغنيمة قبل القسم فإن المسلمون اتفقوا على تحريم الغول لما ثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أد الخائط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة‏"‏ إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب‏.‏ واختلفوا في إباحة الطعام للغزاة ما داموا في أرض الغزو فأباح ذلك الجمهور، ومنع من ذلك قوم وهو مذهب ابن شهاب‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة الآثار التي جاءت في تحريم الغلول للآثار الواردة في إباحة أكل الطعام من حديث ابن عمر وابن المغفل وحديث ابن أبي أوفى، فمن خصص أحاديث تحريم الغلول بهذه أجاز أكل الطعام للغزاة، ومن رجح أحاديث تحريم الغلول على هذا لم يجز ذلك، وحديث ابن مغفل هو قال‏:‏ ‏"‏أصبت جراب شحم يوم خيبر، فقلت لا أعطي منه شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم‏"‏ خرجه البخاري ومسلم‏.‏ وحديث ابن أبي أوفى قال ‏"‏كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا ندفعه‏"‏ خرجه أيضا البخاري‏.‏ واختلفوا في عقوبة الغال، فقال قوم‏:‏ يحرق رحله، وقال بعضهم‏:‏ ليس له عقاب إلا التعزير‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث صالح بن محمد بن زائدة عن سالم عن ابن عمر أنه قال‏:‏ قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏من غل فأحرقوا متاعه‏"‏‏.‏

 الفصل الثالث في حكم الأنفال‏.‏

-وأما تنفيل الإمام من الغنيمة لمن شاء، أعني أن يزيده على نصيبه، فإن العلماء اتفقوا على جواز ذلك، واختلفوا من أي شيء يكون النفل وفي مقداره وهل يجوز الوعد به قبل الحرب‏؟‏ وهل يجب السلب للقاتل أم ليس يجب إلا أن ينفله له الإمام‏؟‏ فهذه أربع مسائل هي قواعد هذا الفصل‏.‏

-‏(‏أما  المسألة الأولى‏)‏ فإن قوما قالوا‏:‏ النفل يكون من الخمس الواجب لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك‏:‏ وقال قوم‏:‏ بل النفل إنما يكون من خمس الخمس وهو حظ الإمام فقط، وهو الذي اختاره الشافعي‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل النفل من جملة الغنيمة، وبه قال أحمد وأبو عبيدة، ومن هؤلاء من أجاز تنفيل جميع الغنيمة‏.‏ والسبب في اختلافهم هو هل بين الآيتين الواردتين في المغانم تعارض أم هما على التخيير‏؟‏ أعني قوله تعالى ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ الآية، وقوله تعالى ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ الآية‏.‏ فمن رأى أن قوله تعالى ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏ ناسخا لقوله تعالى ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ قال‏:‏ لا نفل إلا من الخمس أو من خمس الخمس‏.‏ ومن رأى أن الآيتين لا معارضة بينهما وأنهما على التخيير، أعني أن للإمام أن ينفل من رأس الغنيمة من شاء، وله ألا ينفل بأن يعطى جميع أرباع الغنيمة للغانمين قال بجواز النفل من رأس الغنيمة‏.‏ ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في هذا الباب، وفي ذلك أثران‏:‏ أحدهما ما روى مالك عن ابن عمر ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله ابن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، فكان سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا‏"‏ وهذا يدل على أن النفل كان بعد القسمة من الخمس‏.‏ والثاني حديث حبيب بن مسلمة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة‏"‏ يعني في بداءة غزوه عليه الصلاة والسلام وفي انصرافه‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثانية‏)‏ وهي ما مقدار ما للإمام أن ينفل من ذلك‏؟‏ عند الذين أجازوا النفل من رأس الغنيمة فإن قوما قالوا‏:‏ لا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث أو الربع على حديث حبيب بن مسلمة‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن نفل الإمام السرية جميع ما غنمت جاز مصيرا إلى أن آية الأنفال غير منسوخة بل محكمة، وأنها على عمومها غير مخصصة‏.‏ ومن رأى أنها مخصصة بهذا الأثر قال‏:‏ لا يجوز أن ينفل أكثر من الربع أو الثلث‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثالثة‏)‏ وهي هل يجوز الوعد بالتنفيل قبل الحرب أم ليس يجوز ذلك‏؟‏ فإنهم اختلفوا فيه، فكره ذلك مالك وأجازه وجماعة‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة مفهوم مقصد الغزو لظاهر الأثر، وذلك أن الغزو إنما يقصد به وجه الله العظيم، ولتكون كلمة الله هي العليا، فإذا وعد الإمام بالنفل قبل الحرب خيف أن يسفك دماءهم الغزاة في حق غير الله‏.‏ وأما الأثر الذي يقتضي ظاهره جواز الوعد بالنفل فهو حديث حبيب بن مسلمة ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينفل في الغزو السرايا الخارجة من العسكر الربع وفي القفول الثلث‏"‏ ومعلوم أن المقصود من هذا إنما هو التنشيط على الحرب‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الرابعة‏)‏ وهي هل يجب سلب المقتول للقاتل أو ليس يجب إلا إن نفله له الإمام‏؟‏ فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك‏:‏ لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب، وبه قال أبو حنيفة والثوري‏.‏ وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة السلف‏:‏ واجب للقاتل قال ذلك الإمام أو لم يقله‏.‏ ومن هؤلاء من جعل السلب له على كل حال ولم يشترط في ذلك شرطا‏.‏ ومنهم من قال لا يكون له السلب إلا إذا قتله مقبلا غير مدبر، وبه قال الشافعي‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إنما يكون السلب للقاتل إذا كان القتل قبل معمعة الحرب أو بعدها‏.‏ وأما إن قتله في حين المعمعة فليس له سلب، وبه قال الأوزاعي‏.‏ وقال قوم‏:‏ إن استكثر الإمام السلب جاز أن يخمسه‏.‏ وسبب اختلافهم هو احتمال قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعد ما برد القتال ‏"‏من قتل قتيلا فله سلبه‏"‏ أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام على جهة النفل أو على جهة الاستحقاق للقاتل، ومالك رحمه الله قوي عنده أنه على جهة النفل من قبل أنه لم يثبت عنده أنه قال ذلك عليه الصلاة والسلام ولا قضى به إلا أيام حنين، ولمعارضة آية الغنيمة له إن حمل ذلك على الاستحقاق‏:‏ أعني قوله تعالى ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ الآية‏.‏ فإنه لما نص في الآية على أن الخمس لله علم أن الأربعة الأخماس واجبة للغانمين كما أنه لما نص على الثلث للأم في المواريث علم أن الثلثين للأب‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا القول محفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في حنين وفي بدر‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ‏"‏كنا لا نخمس السلب على عهد رسول صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏ وخرج أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل‏"‏ وخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان يوم الدارة فطعنه طعنة على قربوس سرجه فقتله فبلغ سلبه ثلاثين ألفا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة‏:‏ إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أراني إلا خمسته قال‏:‏ قال ابن سيرين‏:‏ فحدثني أنس بن مالك أنه أول سلب خمس في الإسلام، وبهذا تمسك من فرق بين السلب القليل والكثير‏.‏ واختلفوا في السلب الواجب ما هو‏؟‏ فقال قوم‏:‏ له جميع ما وجد على المقتول، واستثنى قوم من ذلك الذهب والفضة‏.‏

 الفصل الرابع في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار‏.‏

-وأما أموال المسلمين التي تسترد من أيدي الكفار فإنهم اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال مشهورة‏:‏ أحدها أن ما استرد المسلمون من أيدي الكفار من أموال المسلمين فهو لأربابها من المسلمين وليس للغزاة المستردين لذلك منها شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه وأبو ثور، والقول الثاني أن ما استرد المسلمون من ذلك فهو غنيمة الجيش ليس لصاحبه منه شيء، وهذا القول قاله الزهري وعمرو بن دينار، وهو مروي عن علي بن أبي طالب‏.‏ والقول الثالث أن ما وجد من أموال المسلمين قبل القسم فصاحبه أحق به بلا ثمن، وما وجد من ذلك بعد القسم فصاحبه أحق به بالقيمة، وهؤلاء انقسموا قسمين‏:‏ فبعضهم رأى هذا الرأي في كل ما استرده المسلمون من أيدي الكفار بأي وجه صار ذلك إلى أيدي الكفار، وفي أي موضع صار، وممن قال بهذا القول مالك والثوري وجماعة، وهو مروي عن عمر بن الخطاب‏.‏ وبعضهم فرق بين ما صار من ذلك إلى أيدي الكفار غلبة وحازوه حتى أوصلوه إلى دار المشركين، وبين ما اخذ منهم قبل أن يحوزوه ويبلغوا به دار الشرك، فقالوا‏:‏ ما حازوه فحكمه إن ألفاه صاحبه قبل القسم فهو له، وإن ألفاه بعد القسم فهو أحق به بالثمن‏.‏ قالوا‏:‏ وأما ما لم يحزه العدو بأن يبلغوا دارهم به فصاحبه أحق به قبل القسم وبعده، وهذا هو القول الرابع‏.‏

واختلافهم راجع إلى اختلافهم في هل يملك الكفار على المسلمين أموالهم إذا غلبوهم عليها أم ليس يملكونها‏؟‏ وسبب اختلافهم في هذه المسألة تعارض الآثار في هذا الباب والقياس، وذلك أن حديث عمران بن حصين يدل على أن المشركين ليس يملكون على المسلمين شيئا، وهو قال‏:‏ أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء، فأتت ناقة ذلولا فركبتها ثم توجهت قبل المدينة ونذرت لئن نجاها الله لتنحرها، فلما قدمت إلى المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته المرأة بنذرها، فقال‏:‏ ‏"‏بئس ما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية‏"‏ وكذلك يدل ظاهر حديث ابن عمر على مثل هذا، وهو أنه أغار له فرس فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون، فردت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حديثان ثابتان‏.‏ وأما الأثر الذي يدل على ملك الكفار على المسلمين فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏وهل ترك لنا عقيل من منزل‏"‏ يعني أنه باع دوره التي كانت له بمكة بعد هجرته منها عليه الصلاة والسلام إلى المدينة‏.‏ وأما القياس فإن من شبه الأموال بالرقاب قال الكفار كما لا يملكون رقابهم، فكذلك لا يملكون أموالهم كحال الباغي مع العادل، أعني أنه لا يملك عليهم الأمرين جميعا، ومن قال يملكون قال‏:‏ من ليس يملك فهو ضامن للشيء إن فاتت عينه، وقد أجمعوا على أن الكفار غير ضامنين لأموال المسلمين، فلزم عن ذلك أن الكفار ليسوا بغير مالكين للأموال فهم مالكون، إذ لو كانوا غير مالكين لضمنوا‏.‏

وأما من فرق بين الحكم قبل الغنم وبعده، وبين ما أخذه المشركون بغلبة أو بغير غلبة بأن صار إليهم من تلقائه مثل العبد الآبق والفرس العائد فليس له حظ من النظر، وذلك أنه ليس يجد وسطا بين أن يقول إما أن يملك المشرك على المسلم شيئا أو لا يملكه إلا أن يثبت في ذلك دليل سمعي، لكن أصحاب هذا المذهب إنما صاروا إليه لحديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون قد أصابوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد القسم أخذته بالقيمة‏"‏ لكن الحسن بن عمارة مجتمع على ضعفه وترك الاحتجاج به عند أهل الحديث، والذي عول عليه مالك فيما أحسب من ذلك هو قضاء عمر بذلك، ولكن ليس يجعل له أخذه بالثمن بعد القسم على ظاهر حديثه واستثناء أبي حنيفة أم الولد والمدبر من سائر الأموال لا معنى له، وذلك أنه يرى أن الكفار يملكون على المسلمين سائر الأموال ما عدا هذين، وكذلك قول مالك في أم الولد إنه إذا أصابها مولاها بعد القسم أن على الإمام أن يفديها فإن لم يفعل أجبر سيدها على فدائها، فإن لم يكن له مال أعطيت له، واتبعه الذي أخرجت في نصيبه بقيمتها دينا متى أيسر هو قول أيضا ليس له حظ من النظر لأنه إن لم يملكها الكفار فقد يجب أن يأخذها بغير ثمن، وإن ملكوها فلا سبيل له عليها، وأيضا فإنه لا فرق بينها وبين سائر الأموال إلا أن يثبت في ذلك سماع، ومن هذا الأصل، أعني اختلافهم هل يملك المشرك مال المسلم أو لا يملك‏؟‏ اختلف الفقهاء في الكافر يسلم وبيده مال مسلم هل يصح له أم لا‏؟‏ فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ يصح له‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ على أصله لا يصح له‏.‏ واختلف مالك وأبو حنيفة إذا دخل مسلم إلى الكفار على جهة التلصص وأخذ مما في أيديهم مال مسلم، فقال أبو حنيفة‏:‏ هو أولى به وإن أراده صاحبه أخذه بالثمن، وقال مالك‏:‏ هو لصاحبه، فلم يجر على أصله‏.‏

ومن هذا الباب اختلافهم في الحربي يسلم ويهاجر ويترك في دار ولده وزوجه وماله هل يكون لما ترك حرمة مال المسلم وزوجه وذريته فلا يجوز تملكهم للمسلمين إن غلبوا على ذلك أم ليس لما ترك حرمة‏؟‏ فمنهم من قال‏:‏ لكل ما ترك حرمة الإسلام؛ ومنهم من قال‏:‏ ليس له حرمة؛ ومنهم من فرق بين المال والزوجة والولد فقال‏:‏ ليس للمال حرمة، وللولد والزوجة حرمة، وهذا جار على غير قياس وهو قول مالك، والأصل أن المبيح للمال هو الكفر، وأن العاصم له هو الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم‏"‏ فمن زعم أن ههنا مبيحا للمال غير الكفر من تملك عدو أو غيره فعليه الدليل، وليس ههنا دليل تعارض به هذه القاعدة، والله أعلم‏.‏

 الفصل الخامس في حكم ما افتتح المسلمون من الأرض عنوة‏.‏

-واختلفوا فيما افتتح المسلمون من الأرض عنوة‏.‏ فقال مالك‏:‏ لا تقسم الأرض وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة، فإن له أن يقسم الأرض‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الأرضون المفتتحة تقسم كما تقسم الغنائم‏:‏ يعني خمسة أقسام‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الإمام مخير بين أن يقسمها على المسلمين أو يضرب على أهلها الكفارة فيها الخراج ويقرها بأيديهم‏.‏ وسبب اختلافهم ما يظن من التعارض بين آية سورة الأنفال وآية سورة الحشر، وذلك أن آية الأنفال تقتضي بظاهرها أن كل ما غنم يخمس، وهو قوله تعالى ‏{‏واعلموا أنما غنمتم‏}‏ وقوله تعالى في آية الحشر ‏{‏والذين جاءوا من بعدهم‏}‏ عطفا على ذكر الذين أوجب لهم الفيء يمكن أن يفهم منه أن جميع الناس الحاضرين والآتين شركاء في الفيء كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى ‏{‏والذين جاءوا من بعدهم‏}‏ ما أرى هذه الآية إلا قد عمت الخلق حتى الراعي بكداء أو كلاما هذا معناه، ولذلك لم تقسم الأرض التي افتتحت في أيامه عنوة من أرض العراق ومصر؛ فمن رأى أن الآيتين متواردتان على معنى واحد وأن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال استثنى من ذلك الأرض؛ ومن رأى أن الآيتين ليستا متواردتين على معنى واحد، بل رأى أن آية الأنفال في الغنيمة وآية الحشر في الفيء على ما هو ظاهر من ذلك قال‏:‏ تخمس الأرض ولا بد، ولا سيما ‏"‏أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قسم خيبر بين الغزاة‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ فالواجب أن تقسم الأرض لعموم الكتاب وفعله عليه الصلاة والسلام الذي يجري مجرى البيان للمجمل فضلا عن العام‏.‏ وأما أبو حنيفة فإنما ذهب إلى التخيير بين القسمة وبين أن يقر الكفار فيها على خراج يؤدونه، لأنه زعم أنه قد روي ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بالشطر ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم‏"‏ قالوا‏:‏ فظهر من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قسم جميعها ولكنه قسم طائفة من الأرض وترك طائفة لم يقسمها، قالوا‏:‏ فبان بهذا أن الإمام بالخيار بين القسمة والإقرار بأيديهم، وهو الذي فعل عمر رضي الله عنه‏.‏ وإن أسلموا بعد الغلبة عليهم كان مخيرا بين المن عليهم أو قسمتها على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة‏:‏ أعني من المن، وهذا إنما يصح على رأي من رأى أنه افتتحها عنوة، فإن الناس اختلفوا في ذلك وإن كان الأصح أنه افتتحها عنوة لأنه الذي خرجه مسلم‏.‏ وينبغي أن تعلم أن قول من قال‏:‏ إن آية الفيء وآية الغنيمة محمولتان على الخيار، وأن آية الفيء ناسخة لآية الغنيمة أو مخصصة لها أنه قول ضعيف جدا إلا أن يكون اسم الفيء والغنيمة يدلان على معنى واحد، فإن كان ذلك فالآيتان متعارضتان، لأن آية الأنفال توجب التخميس، وآية الحشر توجب القسمة دون التخميس فوجب أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى أو يكون الإمام مخيرا بين التخميس وترك التخميس، وذلك في جميع الأموال المغنومة‏.‏ وذكر بعض أهل العلم أنه مذهب لبعض الناس وأظنه حكاه عن المذهب، ويجب على مذهب من يريد أن يستنبط من الجمع بينهما ترك قسمة الأرض وقسمة ما عدا الأرض أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصصة بعض ما في الأخرى أو ناسخة له حتى تكون آية الأنفال خصصت من عموم آية الحشر ما عدا الأرضين فأوجبت فيها الخمس، وآية الحشر خصصت من آية الأنفال الأرض فلم توجب فيها خمسا، وهذه الدعوى لا تصح إلا بدليل مع أن الظاهر من آية الحشر أنها تضمنت القول في نوع من الأموال مخالف الحكم للنوع الذي تضمنته آية الأنفال وذلك أن قوله تعالى ‏{‏فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب‏}‏ هو تنبيه على العلة التي من أجلها لم يوجب حق للجيش خاصة دون الناس والقسمة بخلاف ذلك إذ كانت تؤخذ بالإيجاف‏.‏

 الفصل السادس في قسمة الفيء‏.‏

-وأما الفيء عند الجمهور فهو كل ما صار للمسلمين من الكفار من قبل الرعب والخوف من غير أن يوجف عليه بخيل أو رجل‏.‏ واختلف الناس في الجهة التي يصرف إليها؛ فقال قوم‏:‏ إن الفيء لجميع المسلمين الفقير والغني، وإن الإمام يعطي منه للمقاتلة وللحكام وللولاة، وينفق منه في النوائب التي تنوب المسلمين كبناء القناطر وإصلاح المساجد وغير ذلك ولا خمس في شيء منه وبه قال الجمهور، وهو الثابت عن أبي بكر وعمر؛ وقال الشافعي‏:‏ بل يكون فيه الخمس، والخمس مقسوم على الأصناف الذين ذكروا في آية الغنائم وهم الأصناف الذين ذكروا في الخمس بعينه من الغنيمة، وإن الباقي هو مصروف إلى اجتهاد الإمام ينفق منه على نفسه وعلى عياله ومن رأى، وأحسب أن قوما قالوا‏:‏ إن الفيء غير مخمس، ولكن يقسم على الأصناف الخمسة الذين يقسم عليهم الخمس، وهو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب‏.‏ وسبب اختلاف من رأى أنه يقسم جميعه على الأصناف الخمسة أو هو مصروف إلى اجتهاد الإمام هو سبب اختلافهم في قسمة الخمس من الغنيمة وقد تقدم ذلك، أعني أن من جعل ذكر الأصناف في الآية تنبيها على المستحقين له قال‏:‏ هو لهذه الأصناف المذكورين ومن فوقهم‏.‏ ومن جعل ذكر الأصناف تعديدا للذين يستوجبون هذا المال قال‏:‏ لا يتعدى به هؤلاء الأصناف، أعني أنه جعله من باب الخصوص لا من باب التبيه‏.‏ وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي، وإنما حمله على هذا القول أنه رأى الفيء قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس، فاعتقد لذلك أن فيه الخمس، لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس وليس ذلك بظاهر، بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفيء لا جزءا منه، وهو الذي ذهب إليه فيما أحسب قوم‏.‏ وخرج مسلم عن عمر قال‏:‏ كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، وهذا يدل على مذهب مالك‏.‏

 الفصل السابع في الجزية‏.‏

-والكلام المحيط بأصول هذا الفصل ينحصر في ست مسائل‏:‏ المسألة الأولى‏:‏ ممن يجوز أخذ الجزية‏؟‏ الثانية‏:‏ على أي الأصناف منهم تجب الجزية‏؟‏ الثالثة‏:‏ كم تجب‏؟‏ الرابعة‏:‏ متى تجب ومتى تسقط‏؟‏ الخامسة‏:‏ كم أصناف الجزية‏؟‏ السادسة‏:‏ فيماذا يصرف مال الجزية‏؟‏

-‏(‏ المسألة الأولى‏)‏ فأما من يجوز أخذ الجزية منه‏؟‏ فإن العلماء مجمعون على أنه يجوز أخذها من أهل الكتاب العجم ومن المجوس كما تقدم، واختلفوا في أخذها ممن لا كتاب له وفيمن هو من أهل الكتاب من العرب بعد اتفاقهم فيما حكى بعضهم أنها لا تؤخذ من قرشي كتابي، وقد تقدمت هذه المسألة‏.‏

-‏(‏ المسألة الثانية‏)‏ وهي أي الأصناف من الناس تجب عليهم‏؟‏ فإنهم اتفقوا على أنها إنما تجب بثلاثة أوصاف الذكورية والبلوغ والحرية، وأنها لا تجب على النساء ولا على الصبيان إذا كانت إنما هي عوض من القتل والقتل إنما هو متوجه بالأمر نحو الرجال البالغين إذ قد نهى عن قتل النساء والصبيان، وكذلك أجمعوا أنها لا تجب على العبيد‏.‏ واختلفوا في أصناف من هؤلاء‏:‏ منها في المجنون وفي المقعد، ومنها في الشيخ، ومنها في أهل الصوامع، ومنها في الفقير هل يتبع بها دينا متى أيسر أم لا‏؟‏ وكل هذه المسائل اجتهادية ليس فيها توقيت شرعي‏.‏ وسبب اختلافهم مبني على هل يقتلون أم لا‏؟‏ أعني هؤلاء الأصناف‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثالثة‏)‏ وهي كم الواجب فإنهم اختلفوا في ذلك، فرأى مالك أن القدر الواجب في ذلك هو ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ وقال الشافعي‏:‏ أقله محدود وهو دينار وأكثره غير محدود وذلك بحسب ما يصالحون عليه‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا توقيت في ذلك، وذلك مصروف إلى اجتهاد الإمام وبه قال الثوري؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ الجزية اثنا عشر درهما وأربعة وعشرون درهما وثمانية وأربعون لا ينقص الفقير من اثني عشر درهما ولا يزاد الغني على ثمانية وأربعين درهما، والوسط أربعة وعشرون درهما؛ وقال أحمد‏:‏ دينار أو عدله معافر لا يزاد عليه ولا ينقص منه‏.‏ وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه روي ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر‏"‏ وهي ثياب باليمن‏.‏ وثبت عن عمر أنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام‏.‏ وروي عنه أيضا أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر‏.‏ فمن حمل هذه الأحاديث كلها على التخيير وتمسك في ذلك بعموم ما ينطلق عليه اسم جزية إذ ليس في توقيت ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته، وإنما ورد الكتاب في ذلك عاما، قال‏:‏ لا حد في ذلك وهو الأظهر والله أعلم‏.‏ ومن جمع بين حديث معاذ والثابت عن عمر قال‏:‏ أقله محدود ولا حد لأكثره‏.‏ ومن رجح أحد حديثي عمر قال‏:‏ إما بأربعين درهما وأربعة دنانير، وإما بثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين واثني عشر على ما تقدم‏.‏ ومن رجح حديث معاذ لأنه مرفوع قال‏:‏ دينار فقط أو عدله معافرا لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الرابعة‏)‏ وهي متى تجب الجزية‏؟‏ فإنهم اتفقوا على أنها لا تجب إلا بعد الحول، وأنه تسقط عنه إذا أسلم قبل انقضاء الحول‏.‏ واختلفوا إذا أسلم بعد ما يحول عليه الحول هل تؤخذ منه جزية للحول الماضي بأسره أو لما مضى منه‏؟‏ فقال قوم‏:‏ إذا أسلم فلا جزية عليه بعد انقضاء الحول كان بعد إسلامه أو قبل انقضائه، وبهذا القول قال الجمهور؛ وقالت طائفة‏:‏ إن أسلم بعد الحول وجبت عليه الجزية، وإن أسلم قبل حلول الحول لم تجب عليه، وإنهم اتفقوا على أنه لا تجب عليه قبل انقضاء الحول‏.‏ لأن الحول شرط في وجوبها، فإذا وجد الرافع لها وهو الإسلام قبل تقرر الوجوب، أعني قبل وجود شرط الوجوب لم تجب؛ وإنما اختلفوا بعد انقضاء الحول لأنها قد وجبت؛ فمن رأى أن الإسلام يهدم هذا الواجب في الكفر كما يهدم كثيرا من الواجبات قال‏:‏ تسقط عنه وإن كان إسلامه بعد الحول؛ ومن رأى أنه لا يهدم الإسلام هذا الواجب كما لا يهدم كثيرا من الحقوق المترتبة مثل الديون وغير ذلك قال‏:‏ لا تسقط بعد انقضاء الحول‏.‏ فسبب اختلافهم هو هل الإسلام يهدم الجزية الواجبة أو لا يهدمها‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الخامسة‏)‏ وهي كم أصناف الجزية‏؟‏ فإن الجزية عندهم ثلاثة أصناف‏:‏ جزية عنوية، وهي هذه التي تكلمنا فيها، أعني التي تفرض على الحربيين بعد غلبتهم‏.‏ وجزية صلحية، وهي التي يتبرعون بها ليكف عنهم، وهذه ليس فيها توقيت لا في الواجب، ولا فيمن يجب عليه ولا متى يجب عليه، وإنما ذلك كله راجع إلى الاتفاق الواقع في ذلك بين المسلمين وأهل الصلح إلا أن يقول قائل‏:‏ إنه إن كان قبول الجزية الصلحية واجبا على المسلمين فقد يجب أن يكون ههنا قدر ما إذا أعطاه من أنفسهم الكفار وجب على المسلمين قبول ذلك منهم فيكون أقلها محدودا وأكثرها غير محدود‏.‏ وأما الجزية الثالثة فهي العشرية، وذلك أن جمهور العلماء على أنه ليس على أهل الذمة عشر ولا زكاة أصلا في أموالهم إلا ما روي عن طائفة منهم أنهم ضاعفوا الصدقة على نصارى بني تغلب، أعني أنهم أوجبوا إعطاء ضعف ما على المسلمين من الصدقة في شيء شيء من الأشياء التي تلزم فيها المسلمين الصدقة، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهم، وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص فيما حكوا، وقد تقدم ذلك في كتاب الزكاة‏.‏ واختلفوا هل يجب العشر عليهم في الأموال التي يتجرون بها إلى بلاد المسلمين بنفس التجارة أو الإذن إن كانوا حربيين أم لا تجب إلا بالشرط‏؟‏ فرأى مالك وكثير من العلماء أن تجار أهل الذمة الذين لذمتهم بالإقرار في بلدهم الجزية يجب أن يؤخذ منهم مما يجلبونه من بلد إلى بلد العشر، إلا ما يسوقون إلى المدينة خاصة فيؤخذ منه فيه نصف العشر، ووافقه أبو حنيفة في وجوبه بالإذن في التجارة أو بالتجارة نفسها وخالفه في القدر فقال‏:‏ الواجب عليهم نصف العشر؛ ومالك لم يشترط عليهم في العشر الواجب عنده نصابا ولا حولا؛ وأما أبو حنيفة فاشترط في وجوب نصف العشر عليهم الحول والنصاب وهو نصاب المسلمين نفسه المذكور في كتاب الزكاة؛ وقال الشافعي‏:‏ ليس يجب عليهم عشر أصلا ولا نصف عشر في نفس التجارة ولا في ذلك شيء محدود إلا ما اصطلح عليه أو اشترط، فعلى هذا تكون الجزية العشرية من نوع الجزية الصلحية؛ وعلى مذهب مالك وأبي حنيفة تكون جنسا ثالثا من الجزية غير الصلحية والتي على الرقاب‏.‏ وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة يرجع إليها، وإنما ثبت أن عمر بن الخطاب فعل ذلك بهم؛ فمن رأى أن فعل عمر هذا إنما فعله بأمر كان عنده في ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب أن يكون ذلك سنتهم؛ ومن رأى أن فعله هذا كان على وجه الشرط، إذ لو كان على غير ذلك لذكره قال‏:‏ ليس ذلك بسنة لازمة لهم إلا بالشرط‏.‏ وحكى أبو عبيد في كتاب الأموال عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لا أذكر اسمه الآن أنه قيل له‏:‏ لم كنتم تأخذون العشر من مشركي العرب‏؟‏ فقال‏:‏ لأنهم كانوا يأخذون منا العشر إذا دخلنا إليهم‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وأقل ما يجب أن يشارطوا عليه هو ما فرضه عمر رضي الله عنه، وإن شورطوا على أكثر فحسن‏.‏ قال‏:‏ وحكم الحربي إذا دخل بأمان حكم الذمي‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة السادسة‏)‏ وهي في ماذا تصرف الجزية‏؟‏ فإنهم اتفقوا على أنها مشتركة لمصالح المسلمين من غير تحديد كالحال في الفيء عند من رأى أنه مصروف إلى اجتهاد الإمام، حتى لقد رأى كثير من الناس أن اسم الفيء إنما ينطلق على الجزية في آية الفيء، وإذا كان الأمر هكذا، فالأموال الإسلامية ثلاثة أصناف‏:‏ صدقة، وفيء، وغنيمة، وهذا القدر كاف في تحصيل قواعد هذا الكتاب والله الموفق للصواب‏.‏